الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)} انتهى الدرس السابق عند الإذن بالقتال لحماية العقائد والشعائر؛ ووعد الله بالنصر لمن ينهضون بتكاليف العقيدة، ويحققون النهج الإلهي في حياة الجماعة. وإذ انتهى من بيان تكاليف الأمة المؤمنة أنشأ يطمئن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تدخل يد القدرة الإلهية لنصره؛ ولخذلان أعدائه، كما تدخلت من قبل لنصرة إخوانه الرسل عليهم السلام وأخذ المكذبين على مدار الأجيال. وأخذ يوجه المشركين إلى تأمل مصارع الغابرين إن كانت لهم قلوب للتأمل والتدبر، فإنها لا تعمي الأبصار، ولكن تعمي القلوب التي في الصدور. ثم يطمئن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يحمي رسله من كيد الشيطان كما يحميهم من كيد المكذبين. ويبطل ما يحاوله الشيطان ويحكم آياته ويجلوها للقلوب السليمة. فأما القلوب المريضة والقلوب الكافرة فتظل الريبة فيها حتى تنتهي بها إلى شر مصير.. فالدرس كله بيان لآثار يد القدرة وهي تتدخل في سير الدعوة، بعد أن يؤدي أصحابها واجبهم، وينهضوا بتكاليفهم التي سبق بها الدرس الماضي في السياق. {وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وأصحاب مدين، وكذب موسى، فأمليت للكافرين ثم أخذتهم، فكيف كان نكير؟}.. فهي سنة مطردة في الرسالات كلها، قبل الرسالة الأخيرة، أن يجيء الرسل بالآيات فيكذب بها المكذبون. فليس الرسول صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل حين يكذبه المشركون. والعاقبة معروفه، والسنة مطردة {فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط}.. ويفرد موسى بفقرة خاصة: {وكذب موسى} أولاً. لأنه لم يكذب من قومه كما كذب هؤلاء من قومهم، إنما كذب من فرعون وملئه. وثانياً لوضوح الآيات التي جاء بها موسى وتعددها وضخامة الأحداث التي صاحبتها.. وفي جميع تلك الحالات أملى الله للكافرين حيناً من الزمان كما يملي لقريش ثم أخذهم أخذاً شديداً.. وهنا سؤال للتهويل والتعجيب: {فكيف كان نكير؟}.. والنكير هو الإنكار العنيف المصحوب بالتغيير. والجواب معروف. فهو نكير مخيف! نكير الطوفان والخسف والتدمير والهلاك والزلازل والعواصف والترويع.. وبعد الاستعراض السريع لمصارع أولئك الأقوام يعمم في عرض مصارع الغابرين: {فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة، فهي خاوية على عروشها؛ وبئر معطلة، وقصر مشيد}. فهي كثيرة تلك القرى المهلكة بظلمها. والتعبير يعرض مصارعها في مشهد شاخص مؤثر: {فهي خاوية على عروشها}.. والعروش السقوف، وتكون قائمة على الجدران عند قيام البناء. فإذا تهدم خرت العروش وسقطت فوقها البنيان، وكان منظرها هكذا موحشاً كئيباً مؤثراً. داعياً إلى التأمل في صورتها الخالية وصورتها البادية. والربوع الخربة أوحش شيء للنفس وأشدها استجاشة للذكرى والعبرة والخشوع. وإلى جوار القرى الخاوية على عروشها.. الآبار المعطلة المهجورة تذكر بالورد والورّاد؛ وتتزاحم حولها الأخيلة وهي مهجورة خواء. ثم إلى جوارها القصور المشيدة وهي خالية من السكان موحشة من الأحياء، تطوف بها الرؤى والأشباح، والذكريات والأطياف! يعرض السياق هذه المشاهد ثم يسأل في استنكار عن آثارها في نفوس المشركين الكفار: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها؟ أو آذان يسمعون بها؟ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} ! إن مصارع الغابرين حيالهم شاخصة موحية، تتحدث بالعبر، وتنطق بالعظات.. {أفلم يسيروا في الأرض} فيروها فتوحي لهم بالعبرة؟ وتنطق لهم بلسانها البليغ؟ وتحدثهم بما تنطوي عليه من عبر؟ {فتكون لهم قلوب يعقلون بها} فتدرك ما وراء هذه الآثار الدوارس من سنة لا تتخلف ولا تتبدل. {أو آذان يسمعون بها} فتسمع أحاديث عن تلك الدور المهدمة والآبار المعطلة والقصور الموحشة؟. أفلم تكن لهم قلوب؟ فإنهم يرون ولا يدركون، ويسمعون ولا يعتبرون {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} ! ويمعن في تحديد مواضع القلوب: {التي في الصدور} زيادة في التوكيد، وزيادة في إثبات العمى لتلك القلوب على وجه التحديد! ولو كانت هذه القلوب مبصرة لجاشت بالذكرى، وجاشت بالعبرة، وجنحت إلى الإيمان خشية العاقبة الماثلة في مصارع الغابرين، وهي حولهم كثير. ولكنهم بدلاً من التأمل في تلك المصارع، والجنوح إلى الإيمان، والتقوى من العذاب.. راحوا يستعجلون بالعذاب الذي أخره الله عنهم إلى أجل معلوم: {ويستعجلونك بالعذاب. ولن يخلف الله وعده. وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون}.. وذلك دأب الظالمين في كل حين. يرون مصارع الظالمين، ويقرأون أخبارهم ويعلمون مصائرهم. ثم إذا هم يسلكون طريقهم غير ناظرين إلى نهاية الطريق! فإذا ذكروا بما نال أسلافهم استبعدوا أن يصيبهم ما أصابهم.. ثم يطغى بهم الغرور والاستهتار إذا أملى لهم الله على سبيل الاختبار. فإذا هم يسخرون ممن يخوفهم ذلك المصير. وإذا هم من السخرية يستعجلون ما يوعدون! {ولن يخلف الله وعده} فهو آت في موعده الذي أراده الله وقدره وفق حكمته. واستعجال الناس به لا يعجله كي لا تبطل الحكمة المقصودة من تأجيله. وتقدير الزمن في حساب الله غيره في حساب البشر: {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون}.. ولقد أملى الله للكثير من تلك القرى الهالكة؛ فلم يكن هذا الإملاء منجياً لها من المصير المحتوم والسنة المطردة في هلاك الظالمين: {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة، ثم أخذتها، وإليَّ المصير}.. فما بال هؤلاء المشركين يستعجلون بالعذاب، ويهزأون بالوعيد، بسبب إملاء الله لهم حيناً من الزمان إلى أجل معلوم؟ وعند هذا الحد من عرض مصارع الغابرين، وبيان سنة الله في المكذبين. . يلتفت السياق بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لينذر الناس ويبين لهم ما ينتظرهم من مصير: {قل: يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين. فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم، والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم}.. ويمحض السياق وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المقام للإنذار: {إنما أنا لكم نذير مبين}.. لما يقتضيه التكذيب والاستهزاء واستعجال العذاب من إبراز الإنذار.. ثم يأخذ في تفصيل المصير: فأما الذين آمنوا وأتبعوا إيمانهم بثمرته التي تدل على تحققه: {وعملوا لصالحات} فجزاؤهم مغفرة من ربهم، لما سلف من ذنوبهم أو تقصيرهم، {ورزق كريم} غير متهم ولا مهين! وأما الذين بذلوا غاية جهدهم في تعطيل آيات الله عن أن تبلغ القلوب، وتتحقق في حياة الناس وآيات الله هي دلائله على الحق وهي شريعته كذلك للخلق فأما هؤلاء فقد جعلهم مالكين للجحيم ويا لسوئها من ملكية في مقابل ذلك الرزق الكريم! والله الذي يحفظ دعوته من تكذيب المكذبين، وتعطيل المعوقين، ومعاجزة المعاجزين.. يحفظها كذلك من كيد الشيطان، ومن محاولته أن ينفذ إليها من خلال أمنيات الرسل النابعة من طبيعتهم البشرية. وهم معصومون من الشيطان ولكنهم بشر تمتد نفوسهم إلى أمانيّ تتعلق بسرعة نشر دعوتهم وانتصارها وإزالة العقبات من طريقها. فيحاول الشيطان أن ينفذ من خلال أمانيهم هذه فيحول الدعوة عن أصولها وعن موازينها.. فيبطل الله كيد الشيطان، ويصون دعوته، ويبين للرسل أصولها وموازينها، فيحكم آياته، ويزيل كل شبهة في قيم الدعوة ووسائلها: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ثم يحكم الله آياته، والله عليم حكيم. ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، وإن الظالمين لفي شقاق بعيد. وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم، وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم}.. لقد رويت في سبب نزول هذه الآيات روايات كثيرة ذكرها كثير من المفسرين. قال ابن كثير في تفسيره: «ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح. والله أعلم». وأكثر هذه الروايات تفصيلاً رواية ابن أبي حاتم. قال: حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي، حدثنا محمد بن إسحاق الشيبي، حدثنا محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قال: أنزلت سورة النجم، وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنه ضلالهم؛ فكان يتمنى هداهم. فلما أنزل الله سورة النجم قال: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى؟ ألكم الذكر وله الأنثى؟} ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت فقال: وإنهن لهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى.. وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته.. فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة، وزلت بها ألسنتهم، وتباشروا بها، وقالوا: إن محمداً قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه.. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم سجد، وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك. غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلاً كبيراً فرفع ملء كفه تراباً فسجد عليه. فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين. ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين، فاطمأنت أنفسهم أي المشركون لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثهم به الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها في السورة، فسجدوا لتعظيم آلهتهم. ففشت تلك الكلمة في الناس؛ وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين: عثمان بن مظعون وأصحابه؛ وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، وصلوا مع رسول الله؛ وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه؛ وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة، فأقبلوا سراعاً، وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، وحفظه من الفرية، وقال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان. ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم. ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم. وإن الظالمين لفي شقاق بعيد}.. فلما بين الله قضاءه، وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم على المسلمين، واشتدوا عليهم.. « قال ابن كثير: وقد ساق البغوي في تفسيره روايات مجموعة من كلام ابن عباس، ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما بنحو من ذلك، ثم سأل هنا سؤالاً: كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه ثم حكى أجوبة عن الناس، من ألطفها أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك. فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس كذلك في نفس الأمر، بل إنما كان من صنيع الشيطان لا عن رسول الرحمن صلى الله عليه وعلى آله وسلم والله أعلم. وقال البخاري: قال ابن عباس: {في أمنيته} إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه. فيبطل الله ما يلقي الشيطان {ثم يحكم الله آياته}. وقال مجاهد: {إذا تمنى} يعني إذا قال؛ ويقال أمنيته: قراءته. وقال البغوي: وأكثر المفسرين قالوا: معنى قوله: {تمنى} أي تلا وقرأ كتاب الله {ألقى الشيطان في أمنيته} أي في تلاوته. وقال ابن جرير عن تفسير {تمنى} بمعنى تلا: هذا القول أشبه بتأويل الكلام! هذه خلاصة تلك الروايات في هذا الحديث الذي عرف بحديث الغرانيق.. وهو من ناحية السند واهي الأصل. قال علماء الحديث: إنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه بسند سليم متصل ثقة. وقال أبو بكر البزار: هذا الحديث لا نعلمه يروىعن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره. وهو من ناحية موضوعه يصادم أصلاً من أصول العقيدة وهو عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من أن يدس عليه الشيطان شيئاً في تبليغ رسالته. وقد أولع المستشرقون والطاعنون في هذا الدين بذلك الحديث، وأذاعوا به، وأثاروا حوله عجاجة من القول. والأمر في هذا كله لا يثبت للمناقشة، بل لا يصح أن يكون موضوعاً للمناقشة. وهناك من النص ذاته ما يستبعد معه أن يكون سبب نزول الآية شيئاً كهذا، وأن يكون مدلوله حادثاً مفرداً وقع للرسول صلى الله عليه وسلم فالنص يقرر أن هذه القاعدة في الرسالات كلها مع الرسل كلهم: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ثم يحكم الله آياته}.. فلا بد أن يكون المقصود أمراً عاماً يستند إلى صفة في الفطرة مشتركة بين الرسل جميعاً، بوصفهم من البشر، مما لا يخالف العصمة المقررة للرسل. وهذا ما نحاول بيانه بعون الله. والله أعلم بمراده، إنما نحن نفسر كلامه بقدر إدراكنا البشري.. إن الرسل عندما يكلفون حمل الرسالة إلى الناس، يكون أحب شيء إلى نفوسهم أن يجتمع الناس على الدعوة، وأن يدركوا الخير الذي جاءوهم به من عند الله فيتبعوه.. ولكن العقبات في طريق الدعوات كثيرة. والرسل بشر محدودو الأجل. وهم يحسون هذا ويعلمونه. فيتمنون لو يجذبون الناس إلى دعوتهم بأسرع طريق.. يودون مثلاً لو هادنوا الناس فيما يعز على الناس أن يتركوه من عادات وتقاليد وموروثات فيسكتوا عنها مؤقتاً لعل الناس أن يفيئوا إلى الهدى، فإذ دخلوا فيه أمكن صرفهم عن ذلك الموروثات العزيزة! ويودون مثلاً لو جاروهم في شيء يسير من رغبات نفوسهم رجاء استدراجهم إلى العقيدة، على أمل أن تتم فيما بعد تربيتهم الصحيحة التي تطرد هذه الرغبات المألوفة! ويودون. ويودون. من مثل هذه الأماني والرغبات البشرية المتعلقة بنشر الدعوة وانتصارها.. ذلك على حين يريد الله أن تمضي الدعوة على أصولها الكاملة، وفق موازينها الدقيقة، ثم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. فالكسب الحقيقي للدعوة في التقدير الإلهي الكامل غير المشوب بضعف البشر وتقديرهم.. هو أن تمضي على تلك الأصول وفق تلك الموازين، ولو خسرت الاشخاص في أول الطريق. فالاستقامة الدقيقة الصارمة على أصول الدعوة ومقاييسها كفيل أن يثني هؤلاء الأشخاص أو من هم خير منهم إلى الدعوة في نهاية المطاف، وتبقى مثل الدعوة سليمة لا تخدش، مستقيمة لا عوج فيها ولا انحناء.. ويجد الشيطان في تلك الرغبات البشرية، وفي بعض ما يترجم عنها من تصرفات أو كلمات، فرصة للكيد للدعوة، وتحويلها عن قواعدها، وإلقاء الشبهات حولها في النفوس.. ولكن الله يحول دون كيد الشيطان، ويبين الحكم الفاصل فيما وقع من تصرفات أو كلمات، ويكلف الرسل أن يكشفوا للناس عن الحكم الفاصل، وعما يكون قد وقع منهم من خطأ في اجتهادهم للدعوة. كما حدث في بعض تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم وفي بعض اتجاهاته، مما بين الله فيه بياناً في القرآن.. بذلك يبطل الله كيد الشيطان، ويحكم الله آياته، فلا تبقى هنالك شبهة في الوجه الصواب: {والله عليم حكيم}.. فأما الذين في قلوبهم مرض من نفاق أو انحراف، والقاسية قلوبهم من الكفار المعاندين؛ فيجدون في مثل هذه الأحوال مادة للجدل واللجاج والشقاق: {وإن الظالمين لفي شقاق بعيد}. وأما الذين أوتوا العلم والمعرفة فتطمئن قلوبهم إلى بيان الله وحكمه الفاصل: {إن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم}.. وفي حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي تاريخ الدعوة الإسلامية نجد أمثلة من هذا، تغنينا عن تأويل الكلام، الذي أشار إليه ابن جرير رحمه الله. نجد من ذلك مثالاً في قصة ابن أم مكتوم رضي الله عنه الأعمى الفقير الذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: يا سول الله اقرئني وعلمني مما علمك الله، ويكرر هذا القول والرسول صلى الله عليه وسلم مشغول بأمر الوليد بن المغيرة يود لو يهديه إلى الإسلام ومعه صناديد قريش، وابن أم مكتوم لا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشغول بهذا الأمر. حتى كره، رسول الله صلى الله عليه وسلم إلحاحه فعبس وأعرض عنه.. فأنزل الله في هذا قرآناً يعاتب فيه الرسول عتاباً شديداً: {عبس وتولى. أن جاءه الأعمى. وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى! أما من استغنى، فأنت له تصدى؟ وما عليك ألا يزكى؟ وأما من جآءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى؟ كلا! إنها تذكرة فمن شاء ذكره...} وبهذا رد الله للدعوة موازينها الدقيقة وقيمها الصحيحة. وصحح تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دفعته إليه، رغبته في هداية صناديد قريش، طمعاً في إسلام من وراءهم وهم كثيرون. فبين الله له: أن استقامة الدعوة على أصولها الدقيقة أهم من إسلام أولئك الصناديد. وأبطل كيد الشيطان من الدخول إلى العقيدة من هذه الثغرة، وأحكم الله آياته. واطمأنت إلى هذا البيان قلوب المؤمنين. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرم ابن مكتوم. ويقول إذا رآه: «مرحباً بمن عاتبني فيه ربي» ويقول له: «هل لك من حاجة» واستخلفه على المدينة مرتين. كذلك وقع ما رواه مسلم في صحيحه قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي، عن اسرائيل، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن سعد هو ابن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر. فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: أطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان نسيت اسميهما. فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم؛ بالغداة والعشي يريدون وجهه} وهكذا رد الله للدعوة قيمها المجردة، وموازينها الدقيقة. ورد كيد الشيطان فيما أراد أن يدخل من تلك الثغرة. ثغرة الرغبة البشرية في استمالة كبراء قريش بإجابة رغبتهم في أن لا يحضر هؤلاء مجلسهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيم الدعوة أهم من أولئك الكبراء، وما يتبع إسلامهم من إسلام الألوف معهم وتقوية الدعوة في نشأتها بهم كما كان يتمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم بمصدر القوة الحقيقية، وهو الاستقامة التي لا ترعى هوى شخصياً ولا عرفاً جارياً! ولعله مما يلحق بالمثلين المتقدمين ما حدث في أمر زينب بنت جحش ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد زوجها من زيد بن حارثة رضي الله عنه وكان قد تبناه قبل النبوة، فكان يقال له: زيد بن محمد. فأراد الله أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة فقال تعالى: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله} وقال: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم} وكان زيد رضي الله عنه أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه من ابنة عمته زينب بنت جحش رضي الله عنها فلم تستقم بينهما الحياة.. وكانوا في الجاهلية يكرهون أن يتزوج المتبني مطلقة متبناه. فاراد الله سبحانه إبطال هذه العادة، كما أبطل نسبة الولد إلى غير أبيه. فأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم أنه سيزوجه من زينب بعد أن يطلقها زيد لتكون هذه السنة مبطلة لتلك العادة ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أخفى في نفسه ما أخبره به الله. وكان كلما شكا إليه زيد تعذر الحياة مع زينب قال له: {أمسك عليك زوجك} مراعياً في هذا كراهية القوم لزواجه منها حين يطلقها زيد. وظل يخفي ما قدر الله إظهاره حتى طلقها زيد.. فأنزل الله في هذا قرآناً، يكشف عما جال في خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم ويقرر القواعد التي أراد الله أن يقوم تشريعه في هذه المسألة عليها: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه: أمسك عليك زوجك واتق الله. وتخفي في نفسك ما الله مبديه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه. فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً. وكان أمر الله مفعولاً} ولقد صدقت عائشة رضي الله عنها وهي تقول. لو كتم محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إليه من كتاب الله تعالى لكتم: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} وهكذا أنفذ الله شريعته وأحكمها، وكشف ما خالج خاطر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية القوم لزواجه من مطلقة دعيه. ولم يمكن للشيطان أن يدخل من هذه الثغرة. وترك الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم يتخذون من هذه الحادثة، مادة للشقاق والجدال ما تزال!!! هذا هو ما نطمئن إليه في تفسير تلك الآيات. والله الهادي إلى الصواب. ولقد تدفع الحماسة والحرارة أصحاب الدعوات بعد الرسل والرغبة الملحة في انتشار الدعوات وانتصارها.. تدفعهم إلى استمالة بعض الأشخاص أو بعض العناصر بالإغضاء في أول الأمر عن شيء من مقتضيات الدعوة يحسبونه هم ليس أصيلاً فيها، ومجاراتهم في بعض أمرهم كي لا ينفروا من الدعوة ويخاصموها! ولقد تدفعهم كذلك إلى اتخاذ وسائل وأساليب لا تستقيم مع موازين الدعوة الدقيقة، ولا مع منهج الدعوة المستقيم. وذلك حرصاً على سرعة انتصار الدعوة وانتشارها. واجتهاداً في تحقيق «مصلحة الدعوة» ومصلحة الدعوة الحقيقية في استقامتها على النهج دون انحراف قليل أو كثير.
{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} انتهى الدرس الماضي ببيان عاقبة المؤمنين والمكذبين يوم يكون الملك لله وحده. وذلك في سياق نصرة الله لرسله، وصيانته لدعوته، وثوابه لمن يؤمن بها، وعقابه لمن يكذبها. فالآن يبدأ هذا الدرس بالحديث عن المهاجرين، بعدما سبق الإذن لهم بالقتال، دفاعاً عن عقيدتهم، وعن عبادتهم، ودفعاً للظلم عن أنفسهم، وقد أخرجوا من ديارهم بغير حق، ولم تكن جريرتهم إلا أن يقولوا: ربنا الله، ويبين ما أعده لهم من عوض عما تركوا من ديار وأموال.. ثم يتحدث بصفة عامة في صورة حكم عام عمن يقع عليهم الاعتداء فيردون عليه بمثله، ثم يقع عليهم البغي والعدوان، فيعدهم نصر الله في صيغة التوكيد. ويعقب على هذا الوعد الوثيق باستعراض دلائل القدرة التي تضمن تحقيق ذلك الوعد الوثيق.. وهي دلائل كونية تتجلى في صفحات الكون ونواميس الوجود؛ وتوحي بأن نصر الله للمظلومين الذين يدفعون عن أنفسهم، ويعاقبون بمثل ما وقع عليهم، ثم يقع عليهم البغي.. سنة كونية ترتبط بنواميس الوجود الكبرى.. وعندئذ يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لكل أمة منهجاً هي مأمورة به ومهيأة لنهجه، فلا يشغل نفسه بجدال المشركين، ولا يدع لهم فرصة لينازعوه في منهجه. فإن جادلوه فليكل أمرهم إلى الله، الذي يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، فهو أعلم بحقيقة ما هم عليه، وهو الذي يعلم ما في السماء والأرض. ويعرّض بعبادتهم ما لم ينزل به سلطاناً وما ليس لهم به علم؛ وبقسوة قلوبهم ونفورهم من سماع كلمة الحق، حتى ليكادون يبطشون بالذين يتلون عليهم آيات الله. ويهددهم إزاء همهم بالسطو على دعاة الحق بالنار التي جعلها الله مصيرهم ووعدهم بها وعداً لا بد آت! ثم يعلن في صورة بيان عام شامل للخليقة عن ضعف من يدعونهم من دون الله. ويصور ضعفهم في صورة زرية لا مبالغة فيها. ولكنها بطريقة عرضها تجسم الضعف المزري. فهي صورة من لا يقدرون على منازلة الذباب، ولا على استنقاذ ما يسلبهم إياه الذباب.. وهم آلهة كما يدعي لهم المشركون! وينتهي الدرس وتنتهي السورة معه بتوجيه الخطاب إلى الأمة المؤمنة لتنهض بتكاليفها. وهي تكاليف الوصاية على البشرية. مستعدة لها بالركوع والسجود والعبادة وفعل الخير، مستعينة عليها بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله.. {والذين هاجروا في سبيل الله، ثم قتلوا أو ماتوا، ليرزقنَّهم الله رزقاً حسناً، وإن الله لهو خير الرازقين. ليدخلنهم مدخلاً يرضونه، وإن الله لعليم حليم}.. والهجرة في سبيل الله تجرد من كل ما تهفو له النفس، ومن كل ما تعتز به وتحرص عليه: الأهل والديار والوطن والذكريات، والمال وسائر أعراض الحياة. وإيثار العقيدة على هذا كله ابتغاء رضوان الله، وتطلعاً إلى ما عنده وهو خير مما في الأرض جميعاً. والهجرة كانت قبل فتح مكة وقيام الدولة الإسلامية. أما بعد الفتح فلم تعد هجرة. ولكن جهاد وعمل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فمن جاهد في سبيل الله وعمل كان له حكم الهجرة، وكان له ثوابها». {والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً}.. سواء لاقوا الله شهداء بالقتل، أو لاقوه على فراشهم بالموت. فلقد خرجوا من ديارهم وأموالهم في سبيله مستعدين لكل مصير، واستروحوا الشهادة في هجرتهم عن أي طريق، وضحوا بكل عرض الحياة وتجردوا بهذا الله. فتكفل الله لهم بالعوض الكريم عما فقدوه: {ليرزقنهم الله رزقاً حسناً، وإن الله لهو خير الرازقين}.. وهو رزق أكرم وأجزل من كل ما تركوا: {ليدخلنهم مدخلاً يرضونه} فقد خرجوا مخرجاً يرضي الله، فتعهد لهم الله بأن يدخلهم مدخلاً يرضونه. وإنه لمظهر لتكريم الله لهم بأن يتوخى ما يرضونه فيحققه لهم، وهم عباده، وهو خالقهم سبحانه. {وإن الله لعليم حليم}.. عليم بما وقع عليهم من ظلم واذى، وبما يرضي نفوسهم ويعوضها. حليم يمهل. ثم يوفي الظالم والمظلوم الجزاء الأوفى.. فأما الذين يقع عليهم العدوان من البشر فقد لا يحلمون ولا يصبرون، فيردون العدوان، ويعاقبون بمثل ما وقع عليهم من الأذى. فإن لم يكف المعتدون، وعاودوا البغي على المظلومين تكفل الله عندئذ بنصر المظلومين على المعتدين: {ذلك. ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله. إن الله لعفو غفور} وشرط هذا النصر أن يكون العقاب قصاصاً على اعتداء لا عدواناً ولا تبطراً؛ وألا يتجاوز العقاب مثل ما وقع من العدوان دون مغالاة. ويعقب على رد الاعتداء بمثله بأن الله عفو غفور. فهو الذي يملك العفو والمغفرة. أما البشر فقد لا يعفون ولا يغفرون، وقد يؤثرون القصاص ورد العدوان. وهذا لهم بحكم بشريتهم ولهم النصر من الله. بعد ذلك يربط السياق بين وعد الله بالنصر لمن يعاقب بمثل ما عوقب به ثم يقع عليه البغي.. يربط بين هذا الوعد وسنن الله الكونية الكبرى، التي تشهد بقدرة الله على تحقيق وعده، كما تشهد بدقة السنن الكونية المطردة مما يوحي بأن ذلك النصر هو إحدى هذه السنن التي لا تتخلف. {ذلك بأن الله يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، وأن الله سميع بصير}.. وهي ظاهرة طبيعية تمر بالبشر صباحاً ومساء، وصيفاً وشتاء. الليل يدخل في النهار عند المغيب، والنهار يدخل في الليل عند الشروق. والليل يدخل في النهار وهو يطول في مدخل الشتاء، والنهار يدخل في الليل وهو يمتد عند مطلع الصيف.. ويرى البشر هذه الظاهرة وتلك من إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل فينسيهم طول رؤيتها وطول ألفتها ما وراءها من دقة النواميس واطرادها. فلا تختل مرة، ولا تتوقف مرة. وهي تشهد بالقدرة الحكيمة التي تصرف هذا الكون وفق تلك النواميس. والسياق يوجه النظر إلى تلك الظاهرة الكونية المكرورة التي يمر عليها الناس غافلين. ليفتح بصائرهم ومشاعرهم على يد القدرة، وهي تطوي النهار من جانب وتسدل الليل من جانب.. وهي تطوي الليل من جانب وتنشر النهار من جانب. في دقة عجيبة لا تختل، وفي اطراد عجيب لا يتخلف.. وكذلك نصر الله لمن يقع عليه البغي وهو يدفع عن نفسه العدوان.. إنه سنة مطردة كسنة إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل. فكذلك يزوي الله سلطان المتجبرين وينشر سلطان العادلين. فهي سنة كونية كتلك السنة، يمر عليها الناس غافلين، كما يمرون على دلائل القدرة في صفحة الكون وهم لا يشعرون! ذلك مرتبط بأن الله هو الحق. فالحق هو المسيطر على نظام هذا الكون. وكل ما دون الله باطل يختل ويتخلف ولا يطرد أو يستقيم. {ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير}.. وذلك تعليل كاف وضمان كاف لانتصار الحق والعدل، وهزيمة الباطل والبغي. وهو كذلك ضمان لاطراد سنن الكون وثباتها، وعدم تخلخلها أو تخلفها. ومن هذه السنن انتصار الحق وهزيمة البغي. والله أعلى من الطغاة، وأكبر من الجبارين: {وأن الله هو العلي الكبير}.. فلن يدع البغي يستعلي والظلم يستطيل. ويستطرد السياق في استعراض دلائل القدرة في مشاهد الكون المعروضة للناس في كل حين: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء، فتصبح الأرض مخضرة؟ إن الله لطيف خبير}. ونزول الماء من السماء، ورؤية الأرض بعده مخضرة بين عشية وصباح.. ظاهرة واقعة مكرورة. قد تذهب الألفة بجدتها في النفوس. فأما حين يتفتح الحس الشاعر، فإن هذا المشهد في الأرض يستجيش في القلب شتى المشاعر والأحساسيس. وإن القلب ليحس أحياناً أن هذا النبت الصغير الطالع من سواد الطين، بخضرته وغضارته، أطفال صغار تبسم في غرارة لهذا الوجود الشائق البهيج، وتكاد من فرحتها بالنور تطير! والذي يحس على هذا النحو يستطيع أن يدرك ما في التعقيب بقوله: {إن الله لطيف خبير}.. من لطف وعمق ومشاكلة للون هذا الإحساس، ولحقيقة ذلك المشهد وطبيعته. فمن اللطف الإلهي ذلك الدبيب اللطيف. دبيب النبتة الصغيرة من جوف الثرى، وهي نحيلة ضئيلة، ويد القدرة تمدها في الهواء، وتمدها بالشوق إلى الارتفاع على جاذبية الأرض وثقلة الطين. . وبالخبرة الإلهية يتم تدبير الأمر في إنزال الماء بقدر في الوقت المناسب وبالقدر المطلوب ويتم امتزاج الماء بالتربة، وبخلايا النبات الحية المتطلعة إلى الانطلاق والنور! والماء ينزل من سماء الله إلى أرضه، فينشئ فيها الحياة، ويوفر فيها الغذاء والثراء.. والله المالك لما في السماء والأرض، غني عما في السماء والأرض. وهو يرزق الأحياء بالماء والنبات، وهو الغني عنهم وعما يرزقون: {إن الله لهو الغني الحميد}. فما به سبحانه من حاجة إلى من في السماء والأرض، أو ما في السماء والأرض فهو الغني عن الجميع.. وهو المحمود على آلائه، المشكور على نعمائه، المستحق للحمد من الجميع. ويستطرد السياق مرة أخرى إلى استعراض دلائل القدرة المعروضة للناس في كل حين: {ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض، والفلك تجري في البحر بأمره. ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه. إن الله بالناس لرءوف رحيم}.. وفي هذه الأرض كم من قوة وكم من ثروة سخرها الله لهذا الإنسان؛ وهو غافل عن يد الله ونعمته التي يتقلب فيها بالليل والنهار! لقد سخر الله ما في الأرض لهذا الإنسان، فجعل نواميسها موافقة لفطرته وطاقاته. ولو اختلفت فطرة الإنسان وتركيبه عن نواميس هذه الأرض ما استطاع الحياة عليها، فضلاً على الانتفاع بها وبما فيها.. لو اختلف تركيبه الجسدي عن الدرجة التي يحتمل فيها جو هذه الأرض، واستنشاق هوائها، والتغذي بطعامها والارتواء بمائها لما عاش لحظة. ولو اختلفت كثافة بدنه أو كثافة الأرض عما هي عليه ما استقرت قدماه على الأرض، ولطار في الهواء أو غاص في الثرى.. ولو خلا وجه هذه الأرض من الهواء أو كان هذا الهواء أكثف مما هو أو أخف لاختنق هذا الإنسان أو لعجز عن استنشاق الهواء مادة الحياة! فتوافق نواميس هذه الأرض وفطرة هذا الإنسان هو الذي سخر الأرض وما فيها لهذا الإنسان. وهو من أمر الله. ولقد سخر الله له ما في الأرض مما وهبه من طاقات وإدراكات صالحة لاستغلال ثروات هذه الأرض، وما أودعه الله إياها من ثروات وطاقات ظاهرة وكامنة؛ يكشف منها الإنسان واحدة بعد واحدة وكلما احتاج إلى ثروة جديدة فض كنوزاً جديدة. وكلما خشي أن ينفذ رصيده من تلك الكنوز تكشف له منها رصيد جديد.. وها هو ذا اليوم لم يستنفذ بعد ثروة البترول وسائر الفلزات ثم فتح له كنز الطاقة الذرية والطاقة الإيدروجينية. وإن يكن بعد كالطفل يعبث بالنار فيحرق نفسه بها ويحرق سواه، إلا حين يهتدي بمنهج الله في الحياة، فيوجه طاقاتها وثرواتها إلى العمران والبناء، ويقوم بالخلافة في الأرض كما أرادها الله! {والفلك تجري في البحر بأمره}. . فهو الذي خلق النواميس التي تسمح بجريان الفلك في البحر. وعلم الإنسان كيف يهتدي إلى هذه النواميس، فيسخرها لمصلحته وينتفع بها هذا الانتفاع. ولو اختلفت طبيعة البحر أو طبيعة الفلك. أو لو اختلفت مدارك هذا الإنسان.. ما كان شيء من هذا الذي كان! {ويمسك السمآء أن تقع على الأرض إلا بإذنه}.. وهو الذي خلق الكون وفق هذا النظام الذي اختاره له؛ وحكم فيه تلك النواميس التي تظل بها النجوم والكواكب مرفوعة متباعدة، لا تسقط ولا يصدم بعضها بعضاً.. وكل تفسير فلكي للنظام الكوني ما يزيد على أنه محاولة لتفسير الناموس المنظم للوضع القائم الذي أنشأه خالق هذا النظام. وإن كان بعضهم ينسى هذه الحقيقة الواضحة، فيخيل إليه أنه حين يفسر النظام الكوني ينفي يد القدرة عن هذا الكون ويستبعد آثارها! وهذا وهم عجيب وانحراف في التفكير غريب. فإن الاهتداء إلى تفسير القانون على فرض صحته والنظريات الفلكية ليست سوى فروض مدروسة لتفسير الظواهر الكونية تصح أو لا تصح، وتثبت اليوم وتبطل غداً بفرض جديد لا ينفي وجود واضع القانون. وأثره في إعمال هذا القانون.. والله سبحانه {يمسك السماء أن تقع على الأرض} بفعل ذلك الناموس الذي يعمل فيها وهو من صنعه. {إلا بإذنه} وذلك يوم يعطل الناموس الذي يُعمله لحكمة ويعطله كذلك لحكمة. وينتهي السياق في استعراض دلائل القدرة ودقة الناموس بالانتقال من الكون إلى النفس؛ وعرض سنن الحياة والموت في عالم الإنسان: {وهو الذي أحياكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم، إن الإنسان لكفور}.. والحياة الأولى معجزة، تتجدد في كل حياة تنشأ آناء الليل وأطراف النهار. وسرها اللطيف ما يزال غيباً يحار العقل البشري في تصور كنهه.. وفيه مجال فسيح للتأمل والتدبر.. والموت سر آخر يعجز العقل البشري عن تصور كنهه، وهو يتم في لحظة خاطفة، والمسافة بين طبيعة الموت وطبيعة الحياة مسافة عريضة ضخمة.. وفيه مجال فسيح للتأمل والتدبر.. والحياة بعد الموت وهي غيب من الغيب، ولكن دليله حاضر من النشأة الأولى.. وفيه مجال كذلك للتأمل والتدبر.. ولكن هذا الإنسان لا يتأمل ولا يتدبر هذه الدلائل والأسرار: {إن الإنسان لكفور}.. والسياق يستعرض هذه الدلائل كلها، ويوجه القلوب إليها في معرض التوكيد لنصرة الله لمن يقع عليه البغي وهو يرد عن نفسه العدوان. وذلك على طريقة القرآن في استخدام المشاهد الكونية لاستجاشة القلوب، وفي ربط سنن الحق والعدل في الخلق بسنن ونواميس الوجود.. وحين يصل السياق إلى هذا المقطع من عرض دلائل القدرة في مشاهد الكون الكبرى يتوجه بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليمضي في طريقه، غير ملتفت إلى المشركين وجدالهم له؛ فلا يمكنهم من نزاعه في منهجه الذي اختاره الله له، وكلفه تبليغه وسلوكه. {لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه، فلا ينازعنك في الأمر، وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم. وإن جادلوك فقل: الله أعلم بما تعملون. الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون. ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض؟ إن ذلك في كتاب. إن ذلك على الله يسير}.. إن لكل أمة منهجاً وطريقة في الحياة والتفكير والاعتقاد. هذا المنهج خاضع لسنن الله في تصريف الطبائع والقلوب وفق المؤثرات والاستجابات. وهي سنن ثابته مطردة دقيقة. فالأمة التي تفتح قلوبها لدواعي الهدى ودلائله في الكون والنفس هي أمة مهتدية إلى الله بالاهتداء إلى نواميسه المؤدية إلى معرفته وطاعته. والأمة التي تغلق قلوبها دون تلك الدواعي والدلائل أمة ضالة تزداد ضلالاً كلما زادت اعراضاً عن الهدى ودواعيه.. وهكذا جعل الله لكل أمة منسكاً هم ناسكوه، ومنهجاً هم سالكوه.. فلا داعي إذن لأن يشغل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه بمجادلة المشركين، وهم يصدون أنفسهم عن منسك الهدى، ويمعنون في منسك الضلال. والله يأمره ألا يدع لهم فرصة لينازعوه أمره، ويجادلوه في منهجه. كما يأمره أن يمضي على منهجه لا يتلفت ولا ينشغل بجدل المجادلين. فهو منهج مستقيم: {وادع ربك إنك لعلى هدى مستقيم}.. فليطمئن إذن على استقامة منهجه. واستقامته هو على الهدى في الطريق: فإن تعرض القوم لجداله فليختصر القول. فلا ضرورة لإضاعة الوقت والجهد: {وإن جادلوك فقل: الله أعلم بما تعملون}. فإنما يجدي الجدل مع القلوب المستعدة للهدى التي تطلب المعرفة وتبحث حقيقة عن الدليل. لا مع القلوب المصرة على الضلال المكابرة التي لا تحفل كل هذا الحشد من الدواعي والدلائل في الأنفس والآفاق وهي كثيرة معروضة للأنظار والقلوب.. فليكلهم إلى الله. فهو الذي يحكم بين المناسك والمناهج وأتباعها الحكم الفاصل الأخير: {والله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون}.. وهو الحكم الذي لا يجادل فيه أحد، لأنه لا جدال في ذلك اليوم، ولا نزاع في الحكم الأخير! والله يحكم بعلم كامل، لا يند عنه سبب ولا دليل، ولا تخفى عليه خافية في العمل والشعور. وهو الذي يعلم ما في السماء والأرض كله؛ ومن ضمنه عملهم ونياتهم وهو بها محيط: {الم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض. إن ذلك في كتاب. إن ذلك على الله يسير}. وعلم الله الكامل الدقيق لا يخفى عليه شيء في السماء ولا في الأرض، ولا يتأثر بالمؤثرات التي تنسى وتمحو. فهو كتاب يضم علم كل شيء ويحتويه. وإن العقل البشري ليصيبه الكلال، وهو يتأمل مجرد تامل بعض ما في السماء والأرض، ويتصور إحاطة علم الله بكل هذا الحشد من الأشياء والأشخاص، والأعمال والنيات والخواطر والحركات، في عالم المنظور وعالم الضمير. ولكن هذا كله، بالقياس إلى قدرة الله وعلمه شيء يسير: {إن ذلك على الله يسير}.. وبعد أن يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يدع للمشركين فرصة لمنازعته في منهجه المستقيم، يكشف عما في منهج المشركين من عوج، وعما فيه من ضعف، وعما فيه من جهل وظلم للحق؛ ويقرر أنهم محرومون من عونه تعالى ونصرته. وهم بذلك محرومون من النصير: {ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً، وما ليس لهم به علم. وما للظالمين من نصير}. وما لوضع ولا لشرع من قوة إلا أن يستمد قوته من الله. فما لم ينزل به الله من عنده قوة، هو ضعيف هزيل، خلو من عنصر القوة الأصيل. وهؤلاء إنما يعبدون آلهة من الأصنام والأوثان، أو من الناس أو الشيطان.. وهذه كلها لم ينزل الله بها قوة من عنده، فهي محرومة من القوة. وهم لا يعبدونها عن علم ولا دليل يقتنعون به، إنما هو الوهم والخرافة. وما لهم من نصير يلجأون إليه وقد حرموا من نصرة الله العزيز القدير. وأعجب شيء أنهم وهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً، وما ليس لهم به علم. لا يستمعون لدعوة الحق، ولا يتلقون الحديث عنها بالقبول. إنما تأخذهم العزة بالإثم، ويكادون يبطشون بمن يتلون عليهم كلام الله: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر، يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا}.. إنهم لا يناهضون الحجة بالحجة، ولا يقرعون الدليل بالدليل إنما هم يلجأون إلى العنف والبطش عندما تعوزهم الحجة ويخذلهم الدليل. وذلك شأن الطغاة دائماَ يشتجر في نفوسهم العتو، وتهيج فيهم روح البطش، ولا يستمعون إلى كلمة الحق لأنهم يدركون أن ليس لهم ما يدفعون به هذه الكلمة إلا العنف الغليظ! ومن ثم يواجههم القرآن الكريم بالتهديد والوعيد: {قل: أفأنبئكم بشر من ذلكم؟} بشر من ذلكم المنكر الذي تنطوون عليه، ومن ذلك البطش الذي تهمون به.. {النار}.. وهي الرد المناسب للبطش والمنكر {وبئس المصير}.. ثم يعلن في الآفاق، على الناس جميعاً، إعلاناً مدوياً عاماً.. يعلن عن ضعف الآلهة المدعاة؛ الآلهة كلها التي يتخذها الناس من دون الله. ومن بينها تلك الآلهة التي يستنصر بها أولئك الظالمون، ويركن إليها أولئك الغاشمون. يعلن عن هذا الضعف في صورة مثل معروض للأسماع والأبصار، مصور في مشهد شاخص متحرك، تتملاه العيون والقلوب.. مشهد يرسم الضعف المزري ويمثله أبرع تمثيل: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له: إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب}. إنه النداء العام، والنفير البعيد الصدى: {يا أيها الناس}.. فإذا تجمع الناس على النداء أعلنوا أنهم أمام مثل عام يضرب، لا حالة ولا مناسبة حاضرة: {ضرب مثل فاستمعوا له}.. هذا المثل يضع قاعدة، ويقرر حقيقة. {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له}.. كل من تدعون من دون الله من آلهة مدعاة. من أصنام وأوثان، ومن أشخاص وقيم وأوضاع، تستنصرون بها من دون الله، وتستعينون بقوتها وتطلبون منها النصر والجاه.. كلهم {لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا به}.. والذباب صغير حقير؛ ولكن هؤلاء الذين يدعونهم آلهة لا يقدرون ولو اجتمعوا وتساندوا على خلق هذا الذباب الصغير الحقير! وخلق الذباب مستحيل كخلق الجمل والفيل. لأن الذباب يحتوي على ذلك السر المعجز سر الحياة. فيستوي في استحالة خلقه مع الجمل والفيل.. ولكن الأسلوب القرآني المعجز يختار الذباب الصغير الحقير لأن العجز عن خلقه يلقي في الحس ظل الضعف أكثر مما يلقيه العجز عن خلق الجمل والفيل! دون أن يخل هذا بالحقيقة في التعبير. وهذا من بدائع الأسلوب القرآني العجيب! ثم يخطو خطوة أوسع في إبراز الضعف المزري: {وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه}.. والآلهة المدعاة لا تملك استنقاذ شيء من الذباب حين يسلبها إياه، سواء كانت أصناماً أو أوثاناً أو أشخاصاً! وكم من عزيز يسلبه الذباب من الناس فلا يملكون رده. وقد اختير الذباب بالذات وهو ضعيف حقير. وهو في الوقت ذاته يحمل أخطر الأمراض ويسلب أغلى النفائس: يسلب العيون والجوارح، وقد يسلب الحياة والأرواح.. إنه يحمل ميكروب السل والتيفود والدوسنتاريا والرمد.. ويسلب ما لا سبيل إلى استنقاذه وهو الضعيف الحقير!. وهذه حقيقة أخرى كذلك يستخدمها الأسلوب القرآني المعجز.. ولو قال: وإن تسلبهم السباع شيئاً لا يستنقذوه منها.. لأوحى ذلك بالقوة بدل الضعف. والسباع لا تسلب شيئاً أعظم مما يسلبه الذباب! ولكنه الأسلوب القرآني العجيب! ويختم ذلك المثل المصور الموحي بهذا التعقيب: {ضعف الطالب والمطلوب}. ليقرر ما ألقاه المثل من ظلال، وما أوحى به إلى المشاعر والقلوب! وفي أنسب الظروف.. والمشاعر تفيض بالزراية والاحتقار لضعف الآلهة المدعاة يندد بسوء تقديرهم لله، ويعرض قوة الله الحق الحقيق بأنه إله: {ما قدروا الله حق قدره، إن الله لقوي عزيز}.. ما قدروا الله حق قدره، وهم يشركون به تلك الآلهة الكليلة العاجزة التي لا تخلق ذباباً ولو تجمعت له. بل لا تستنقذ ما يسلبها الذباب إياه! ما قدروا الله حق قدره، وهم يرون آثار قدرته، وبدائع مخلوقاته، ثم يشركون به من لا يستطيعون خلق الذباب الحقير! ما قدروا الله حق قدره، وهم يستعينون بتلك الآلهة العاجزة الكليلة عن استنقاذ ما يسلبها إياه الذباب، ويدعون الله القوي العزيز. إنه تقرير وتقريع في أشد المواقف مناسبة للخشوع والخضوع! وهنا يذكر أن الله القوي العزيز يختار رسله من الملائكة إلى الأنبياء. ويختار رسله من البشر إلى الناس. وذلك عن علم وخبرة وقدرة: {الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس. إن الله سميع بصير. يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم. وإلى الله ترجع الأمور}. فعن صاحب القوة العزيز الجناب يصدر الاختيار للملائكة والرسل. ومن لدن القوي العزيز جاء محمد صلى الله عليه وسلم جاء بسلطان من عند القوي العزيز الذي اختاره واصطفاه. فأنّى يقف له من يركنون إلى تلك الآلهة العاجزة الضعيفة المزدراة؟! {إن الله سميع بصير}.. فهو يسمع ويرى فيعلم {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} علماً شاملاً كاملاً، لا يند عنه حاضر ولا غائب، ولا قريب ولا بعيد. {وإلى الله ترجع الأمور}.. فهو الحكم الأخير، وله السيطرة والتدبير. والآن وقد كشف عما في منسك المشركين من سخف وضعف؛ وعما في عبادتهم من قصور وجهل: الآن يتوجه بالخطاب إلى الأمة المسلمة، لتنهض بتكاليف دعوتها، وتستقيم على نهجها العريق القويم: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا، واعبدوا ربكم، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون. وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم؛ وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم. هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم، وتكونوا شهداء على الناس. فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، واعتصموا بالله هو مولاكم، فنعم المولى ونعم النصير}.. وفي هاتين الآيتين يجمع المنهاج الذي رسمه الله لهذه الأمة، ويلخص تكاليفها التي ناطها بها، ويقرر مكانها الذي قدره لها، ويثبت جذورها في الماضي والحاضر والمستقبل، متى استقامت على النهج الذي أراده لها الله. إنه يبدأ بأمر الذين آمنوا بالركوع والسجود. وهما ركنا الصلاة البارزان. ويكني عن الصلاة بالركوع والسجود ليمنحها صورة بارزة، وحركة ظاهرة في التعبير، ترسمها مشهداً شاخصاً، وهيئة منظورة. لأن التعبير على هذا النحو أوقع أثراً وأقوى استجاشة للشعور. ويثني بالأمر العام بالعبادة. هي أشمل من الصلاة. فعبادة الله تشمل الفرائض كلها وتزيد عليها كذلك كل عمل وكل حركة وكل خالجة يتوجه بها الفرد إلى الله. فكل نشاط الإنسان في الحياة يمكن أن يتحول إلى عبادة متى توجه القلب به إلى الله. حتى لذائذه التي ينالها من طيبات الحياة بلفتة صغيرة تصبح عبادات تكتب له بها حسنات. وما عليه إلا أن يذكر الله الذي أنعم بها، وينوي بها أن يتقوى على طاعته وعبادته فإذا هي عبادات وحسنات، ولم يتحول في طبيعتها شيء، ولكن تحول القصد منها والاتجاه! ويختم بفعل الخير عامة، في التعامل مع الناس بعد التعامل مع الله بالصلاة والعبادة. يأمر الأمة المسلمة بهذا رجاء أن تفلح. فهذه هي أسباب الفلاح.. العبادة تصلها بالله فتقوم حياتها على قاعدة ثابتة وطريق واصل. وفعل الخير يؤدي إلى استقامة الحياة، الجماعية على قاعدة من الإيمان وأصالة الاتجاه. فإذا استعدت الأمة المسلمة بهذه العدة من الصلة بالله واستقامة الحياة، فاستقام ضميرها واستقامت حياتها.. نهضت بالتبعة الشاقة: {وجاهدوا في الله حق جهاده}.. وهو تعبير شامل جامع دقيق، يصور تكليفاً ضخماً، يحتاج إلى تلك التعبئة وهذه الذخيرة وذلك الإعداد.. {وجاهدوا في الله حق جهاده}.. والجهاد في سبيل الله يشمل جهاد الأعداء، وجهاد النفس، وجهاد الشر والفساد.. كلها سواء.. {وجاهدوا في الله حق جهاده}.. فقد انتدبكم لهذه الأمانة الضخمة، واختاركم لها من بين عباده: {هو اجتباكم}.. وإن هذا الاختيار ليضخم التبعة، ولا يجعل هنالك مجالاً للتخلي عنها أو الفرار! وإنه لإكرام من الله لهذه الأمة ينبغي أن يقابل منها بالشكر وحسن الأداء! وهو تكليف محفوف برحمة الله: {وما جعلنا عليكم في الدين من حرج}.. وهذا الدين كله بتكاليفه وعباداته وشرائعه ملحوظ فيه فطرة الإنسان وطاقته. ملحوظ في تلبيته تلك الفطرة. وإطلاق هذه الطاقة، والاتجاه بها إلى البناء والاستعلاء. فلا تبقى حبيسة كالبخار المكتوم. ولا تنطلق انطلاق الحيوان الغشيم! وهو منهج عريق أصيل في ماضي البشرية، موصول الماضي بالحاضر: {ملة أبيكم إبراهيم} وهو منبع التوحيد الذي اتصلت حلقاته منذ عهد إبراهيم عليه السلام فلم تنتقطع من الأرض، ولم تفصل بينها فجوات مضيعة لمعالم العقيدة كالفجوات التي كانت بين الرسالات قبل إبراهيم عليه السلام. وقد سمى الله هذه الأمة بالمسلمين. سماها كذلك من قبل وسماها كذلك القرآن: {هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا}.. والإسلام إسلام الوجه والقلب لله وحده بلا شريك. فكانت الأمة المسلمة ذات منهج واحد على تتابع الأجيال والرسل والرسالات. حتى انتهى بها المطاف إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحتى سلمت إليها الأمانة، وعهد إليها بالوصاية على البشرية. فاتصل ماضيها بحاضرها بمستقبلها كما أرادها الله: {ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهدآء على الناس}.. فالرسول صلى الله عليه وسلم يشهد على هذه الأمة، ويحدد نهجها واتجاهها، ويقرر صوابها وخطأها. وهي تشهد على الناس بمثل هذا، فهي القوّامة على البشرية بعد نبيها؛ وهي الوصية على الناس بموازين شريعتها، وتربيتها وفكرتها عن الكون والحياة. ولن تكون كذلك إلا وهي أمينة على منهجها العريق المتصل الوشائج، المختار من الله.
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)} هذه سورة «المؤمنون».. اسمها يدل عليها. ويحدد موضوعها.. فهي تبدأ بصفة المؤمنين، ثم يستطرد السياق فيها إلى دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق. ثم إلى حقيقة الإيمان كما عرضها رسل الله صلوات الله عليهم من لدن نوح عليه السلام إلى محمد خاتم الرسل والنبيين؛ وشبهات المكذبين حول هذه الحقيقة واعتراضاتهم عليها، ووقوفهم في وجهها، حتى يستنصر الرسل بربهم، فيهلك المكذبين، وينجي المؤمنين.. ثم يستطرد إلى اختلاف الناس بعد الرسل في تلك الحقيقة الواحدة التي لا تتعدد.. ومن هنا يتحدث عن موقف المشركين من الرسول صلى الله عليه وسلم ويستنكر هذا الموقف الذي ليس له مبرر.. وتنتهي السورة بمشهد من مشاهد القيامة يلقون فيه عاقبة التكذيب، ويؤنبون على ذلك الموقف المريب، يختم بتعقيب يقرر التوحيد المطلق والتوجه إلى الله بطلب الرحمة والغفران.. فهي سورة «المؤمنون» أو هي سورة الإيمان، بكل قضاياه ودلائله وصفاته. وهو موضوع السورة ومحورها الأصيل. ويمضي سياق السورة في أربعة أشواط: يبدأ الشوط الأول بتقرير الفلاح للمؤمنين: {قد أفلح المؤمنون}.. ويبين صفات المؤمنين هؤلاء الذين كتب لهم الفلاح.. ويثني بدلائل الإيمان في الأنفس والآفاق، فيعرض أطوار الحياة الإنسانية منذ نشأتها الأولى إلى نهايتها في الحياة الدنيا متوسعاً في عرض أطوار الجنين، مجملاً في عرض المراحل الأخرى.. ثم يتابع خط الحياة البشرية إلى البعث يوم القيامة.. وبعد ذلك ينتقل من الحياة الإنسانية إلى الدلائل الكونية: في خلق السماء، وفي إنزال الماء، وفي إنبات الزرع والثمار. ثم إلى الأنعام المسخرة للإنسان؛ والفلك التي يحمل عليها وعلى الحيوان. فأما الشوط الثاني فينتقل من دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق إلى حقيقة الإيمان. حقيقته الواحدة التي توافق عليها الرسل دون استثناء: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} قالها نوح عليه السلام وقالها كل من جاء بعده من الرسل، حتى انتهت إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكان اعتراض المكذبين دائماً: {ما هذا إلا بشر مثلكم} {ولو شاء الله لأنزل ملائكة} وكان اعتراضهم كذلك: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون؟} وكانت العاقبة دائماً أن يلجأ الرسل إلى ربهم يطلبون نصره، وأن يستجيب الله لرسله، فيهلك المكذبين.. وينتهي الشوط بنداء للرسل جميعاً: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً، إني بما تعملون عليم. وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} والشوط الثالث يتحدث عن تفرق الناس بعد الرسل وتنازعهم حول تلك الحقيقة الواحدة. التي جاءوا بها: {فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً، كل حزب بما لديهم فرحون} وعن غفلتهم عن ابتلاء الله لهم بالنعمة، واغترارهم بما هم فيه من متاع. بينما المؤمنون مشفقون من خشية ربهم، يعبدونه ولا يشركون به، وهم مع ذلك دائمو الخوف والحذر {وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} وهنا يرسم مشهداً لأولئك الغافلين المغرورين يوم يأخذهم العذاب فإذا هم يجأرون؛ فيأخذهم التوبيخ والتأنيب: {قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون، مستكبرين به سامراً تهجرون} ويستنكر السياق موقفهم العجيب من رسولهم الأمين، وهم يعرفونه ولا ينكرونه؛ وقد جاءهم بالحق لا يسألهم عليه أجراً. فماذا ينكرون منه ومن الحق الذي جاءهم به؟ وهم يسلمون بملكية الله لمن في السماوات والأرض، وربوبيته للسماوات والأرض، وسيطرته على كل شيء في السماوات والأرض. وبعد هذا التسليم هم ينكرون البعث، ويزعمون لله ولداً سبحانه! ويشركون به آلهة أخرى {فتعالى عما يشركون} والشوط الأخير يدعهم وشركهم وزعمهم؛ ويتوجه بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفع السيئة بالتي هي أحسن، وأن يستعيذ بالله من الشياطين، فلا يغضب ولا يضيق صدره بما يقولون.. وإلى جوار هذا مشهد من مشاهد القيامة يصور ما ينتظرهم هناك من عذاب ومهانة وتأنيب.. وتختم السورة بتنزيه الله سبحانه: {فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم} وبنفي الفلاح عن الكافرين في مقابل تقرير الفلاح في أول السورة للمؤمنين: {ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه، إنه لا يفلح الكافرون} وبالتوجه إلى الله طلباً للرحمة والغفران: {وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين} جو السورة كلها هو جو البيان والتقرير، وجو الجدل الهادئ، والمنطق الوجداني، واللمسات الموحية للفكر والضمير. والظل الذي يغلب عليها هو الظل الذي يلقيه موضوعها.. الإيمان.. ففي مطلعها مشهد الخشوع في الصلاة: {الذين هم في صلاتهم خاشعون}. وفي صفات المؤمنين في وسطها: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} وفي اللمسات الوجدانية: {وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون} وكلها مظلّلة بذلك الظل الإيماني اللطيف. {قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون. والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون.. أولئك هم الوارثون. الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}. إنه الوعد الصادق، بل القرار الأكيد بفلاح المؤمنين. وعد الله لا يخلف الله وعده؛ وقرار الله لا يملك أحد رده. الفلاح في الدنيا والفلاح في الآخرة. فلاح الفرد المؤمن وفلاح الجماعة المؤمنة. الفلاح الذي يحسه المؤمن بقلبه ويجد مصداقه في واقع حياته؛ والذي يشمل ما يعرفه الناس من معاني الفلاح، وما لا يعرفونه مما يدخره الله لعباده المؤمنين. فمن هم المؤمنون الذين كتب الله لهم هذه الوثيقة، ووعدهم هذا الوعد، وأعلن عن فلاحهم هذا الإعلان؟ من هم المؤمنون المكتوب لهم الخير والنصر والسعادة والتوفيق والمتاع الطيب في الأرض؟ والمكتوب لهم الفوز والنجاة، والثواب والرضوان في الآخرة؟ ثم ما شاء الله غير هذا وذلك في الدارين مما لا يعلمه إلا الله؟ من هم المؤمنون. الوارثون. الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون؟ إنهم هؤلاء الذين يفصل السياق صفاتهم بعد آية الافتتاح: {الذين هم في صلاتهم خاشعون} {والذين هم عن اللغو معرضون} {والذين هم للزكاة فاعلون} {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم.. الخ.} {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون.} {والذين هم على صلواتهم يحافظون}. فما قيمة هذه الصفات؟ قيمتها أنها ترسم شخصية المسلم في أفقها الأعلى. أفق محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله، وخير خلق الله، الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، والذي شهد له في كتابه بعظمة خلقه: {وإنك لعلى خلق عظيم} فلقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن. ثم قرأت. {قد أفلح المؤمنون} حتى {والذين هم على صلواتهم يحافظون}. وقالت. هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومرة أخرى.. ما قيمة هذه الصفات في ذاتها؟ ما قيمتها في حياة الفرد، وفي حياة الجماعة، وفي حياة النوع الإنساني؟ {الذين هم في صلاتهم خاشعون}.. تستشعر قلوبهم رهبة الموقف في الصلاة بين يدي الله، فتسكن وتخشع، فيسري الخشوع منها إلى الجوارح والملامح والحركات. ويغشى أرواحهم جلال الله في حضرته، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل، ولا تشتغل بسواه وهم مستغرقون في الشعور به مشغولون بنجواه. ويتوارى عن حسهم في تلك الحضرة القدسية كل ما حولهم وكل ما بهم، فلا يشهدون إلا الله، ولا يحسون إلا إياه، ولا يتذوقون إلا معناه. ويتطهر وجدانهم من كل دنس، وينفضون عنهم كل شائبة؛ فما يضمون جوانحهم على شيء من هذا مع جلال الله.. عندئذ تتصل الذرة التائهة بمصدرها، وتجد الروح الحائرة طريقها، ويعرف القلب الموحش مثواه. وعندئذ تتضاءل القيم والأشياء والأشخاص إلا ما يتصل منها بالله. {والذين هم عن اللغو معرضون}.. لغو القول، ولغو الفعل، ولغو الاهتمام والشعور. إن للقلب المؤمن ما يشغله عن اللغو واللهو والهذر.. له ما يشغله من ذكر الله، وتصور جلاله وتدبر آياته في الأنفس والآفاق. وكل مشهد من مشاهد الكون يستغرق اللب، ويشغل الفكر، ويحرك الوجدان.. وله ما يشغله من تكاليف العقيدة: تكاليفها في تطهير القلب، وتزكية النفس وتنقية الضمير. وتكاليفها في السلوك، ومحاولة الثبات على المرتقى العالي الذي يتطلبه الإيمان. وتكاليفها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصيانة حياة الجماعة من الفساد والانحراف. وتكاليفها في الجهاد لحمايتها ونصرتها وعزتها، والسهر عليها من كيد الأعداء.. وهي تكاليف لا تنتهي، ولا يغفل عنها المؤمن، ولا يعفي نفسه منها، وهي مفروضة عليه فرض عين أو فرض كفاية. وفيها الكفاية لاستغراق الجهد البشري والعمر البشري. والطاقة البشرية محدودة. وهي إما أن تنفق في هذا الذي يصلح الحياة وينميها ويرقيها؛ وإما أن تنفق في الهذر واللغو اللهو. والمؤمن مدفوع بحكم عقيدته إلى إنفاقها في البناء والتعمير والإصلاح. ولا ينفي هذا أن يروح المؤمن عن نفسه في الحين بعد الحين. ولكن هذا شيء آخر غير الهذر واللغو والفراغ.. {والذين هم للزكاة فاعلون}.. بعد إقبالهم على الله، وانصرافهم عن اللغو في الحياة.. والزكاة طهارة للقلب والمال: طهارة للقلب من الشح، واستعلاء على حب الذات، وانتصار على وسوسة الشيطان بالفقر، وثقة بما عند الله من العوض والجزاء. وطهارة للمال تجعل ما بقي منه بعدها طيباً حلالا، لا يتعلق به حق إلا في حالات الضرورة ولا تحول حوله شبهة. وهي صيانة للجماعة من الخلل الذي ينشئه العوز في جانب والترف في جانب، فهي تأمين اجتماعي للأفراد جميعاً، وهي ضمان اجتماعي للعاجزين، وهي وقاية للجماعة كلها من التفكيك والانحلال. {والذين هم لفروجهم حافظون}. وهذه طهارة الروح والبيت والجماعة. ووقاية النفس والأسرة والمجتمع. بحفظ الفروج من دنس المباشرة في غير حلال، وحفظ القلوب من التطلع إلى غير حلال؛ وحفظ الجماعة من انطلاق الشهوات فيها بغير حساب، ومن فساد البيوت فيها والأنساب. والجماعة التي تنطلق فيها الشهوات بغير حساب جماعة معرضة للخلل والفساد. لأنه لا أمن فيها للبيت، ولا حرمة فيها للأسرة. والبيت هو الوحدة الأولى في بناء الجماعة، إذ هو المحضن الذي تنشأ فيه الطفولة وتدرج؛ ولا بد له من الأمن والاستقرار والطهارة، ليصلح محضناً ومدرجاً، وليعيش فيه الوالدان مطمئناً كلاهما للآخر، وهما يرعيان ذلك المحضن. ومن فيه من فراخ! والجماعة التي تنطلق فيها الشهوات بغير حساب جماعة قذرة هابطة في سلم البشرية، فالمقياس الذي لا يخطئ للإرتقاء البشري هو تحكم الإرادة الإنسانية وغلبتها. وتنظيم الدوافع الفطرية في صورة مثمرة نظيفة، لا يخجل الأطفال معها من الطريقة التي جاءوا بها إلى هذا العالم، لأنها طريقة نظيفة معروفة، يعرف فيها كل طفل أباه. لا كالحيوان الهابط الذي تلقى الأنثى فيه الذكر للقاح، وبدافع اللقاح، ثم لا يعرف الفصيل كيف جاء ولا من أين جاء!. والقرآن هنا يحدد المواضع النظيفة التي يحل للرجل ان يودعها بذور الحياة: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين}. . ومسألة الأزواج لا تثير شبهة ولا تستدعي جدلاً. فهي النظام المشروع المعروف. أما مسألة ملك اليمين فقد تستدعي شيئاً من البيان. ولقد فصلت القول في مسألة الرق في الجزء الثاني من الظلال، وبينت هناك أن الإسلام قد جاء والرق نظام عالمي. واسترقاق أسرى الحرب نظام دولي. فما كان يمكن والإسلام مشتبك في حروب مع أعدائه الواقفين بالقوة المادية في طريقه أن يلغي هذا النظام من جانب واحد، فيصبح أسارى المسلمين رقيقاً عند اعدائه، بينما هو يحرر أسارى الأعداء.. فجفف الإسلام كل منابع الرق عدا أسرى الحرب إلى أن يتاح للبشرية وضع نظام دولي للتعامل بالمثل في مسألة الأسرى. ومن هنا كان يجيء إلى المعسكر الإسلامي أسيرات، تقضي قاعدة التعامل بالمثل باسترقاقهن ومن مقضيات هذا الاسترقاق ألا يرتفعن إلى مستوى الزوجات بالنكاح. فأباح الإسلام حينئذ الاستماع بهن بالتسري لمن يملكهن خاصة إلا أن يتحرَّرن لسبب من الأسباب الكثيرة التي جعلها الإسلام سبلاً لتحرير الرقيق. ولعل هذا الاستمتاع ملحوظ فيه تلبية الحاجة الفطرية للأسيرات أنفسهن، كي لا يشبعنها عن طريق الفوضى القذرة في المخالطة الجنسية كما يقع في زماننا هذا مع أسيرات الحرب بعد معاهدات تحريم الرقيق هذه الفوضى التي لا يحبها الإسلام! وذلك حتى يأذن الله فيرتفعن إلى مرتبة الحرية. والأمة تصل إلى مرتبة الحرية بوسائل كثيرة.. إذا ولدت لسيدها ثم مات عنها. وإذا أعتقها هو تطوعاً أو في كفارة. وإذا طلبت أن تكاتبه على مبلغ من المال فافتدت به رقبتها. وإذا ضربها على وجهها فكفارتها عتقها.. الخ وعلى أية حال فقد كان الإسترقاق في الحرب ضرورة وقتية، هي ضرورة المعاملة بالمثل في عالم كله يسترق الأسرى، ولم يكن جزءاً من النظام الاجتماعي في الإسلام. {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون}.. وراء الزوجات وملك اليمين، ولا زيادة بطريقة من الطرق. فمن ابتغى وراء ذلك فقد عدا الدائرة المباحة، ووقع في الحرمات، واعتدى على الأعراض التي لم يستحلها بنكاح ولا بجهاد. وهنا تفسد النفس لشعورها بأنها ترعى في كلأ غير مباح، ويفسد البيت لأنه لا ضمان له ولا اطمئنان؛ وتفسد الجماعة لأن ذئابها تنطلق فتنهش من هنا ومن هناك: وهذا كله هو الذي يتوقاه الإسلام. {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} راعون لأماناتهم وعهدهم أفراداً؛ وراعون لأماناتهم وعهدهم جماعة.. والأمانات كثيرة في عنق الفرد وفي عنق الجماعة؛ وفي أولها أمانة الفطرة؛ وقد فطرها الله مستقيمة متناسقة مع ناموس الوجود الذي هي منه وإليه شاهدة بوجود الخالق ووحدانيته، بحكم إحساسها الداخلي بوحدة الناموس الذي يحكمها ويحكم الوجود، ووحدة الإرادة المختارة لهذا الناموس المدبرة لهذا الوجود. . والمؤمنون يرعون تلك الأمانة الكبرى فلا يدعون فطرتهم تنحرف عن استقامتها، فتظل قائمة بأمانتها شاهدة بوجود الخالق ووحدانيته. ثم تأتي سائر الأمانات تبعاً لتلك الأمانة الكبرى. والعهد الأول هو عهد الفطرة كذلك. وهو العهد الذي قطعه الله على فطرة البشر بالإيمان بوجوده وبتوحيده. وعلى هذا العهد الأول تقوم جميع العهود والمواثيق. فكل عهد يقطعه المؤمن يجعل الله شهيداً عليه فيه، ويرجع في الوفاء به إلى تقوى الله وخشيته. والجماعة المسلمة مسؤولة عن أماناتها العامة، مسؤولة عن عهدها مع الله تعالى، وما يترتب على هذا العهد من تبعات. والنص يجمل التعبير ويدعه يشمل كل أمانة وكل عهد. ويصف المؤمنين بأنهم لأماناتهم وعهدهم راعون. فهي صفة دائمة لهم في كل حين. وما تستقيم حياة الجماعة إلا أن تؤدى فيها الأمانات؛ وترعى فيها العهود؛ ويطمئن كل من فيها إلى هذه القاعدة الأساسية للحياة المشتركة، الضرورية لتوفير الثقة والأمن والاطمئنان. {والذين هم على صلواتهم يحافظون}.. فلا يفوّتونها كسلاً، ولا يضيعونها إهمالاً؛ ولا يقصرون في إقامتها كما ينبغي أن تقام؛ إنما يؤدونها في أوقاتها كاملة الفرائض والسنن، مستوفية الأركان والآداب، حية يستغرق فيها القلب، وينفعل بها الوجدان. والصلاة صلة ما بين القلب والرب، فالذي لا يحافظ عليها لا ينتظر أن يحافظ على صلة ما بينه وبين الناس محافظة حقيقية مبعثها صدق الضمير.. ولقد بدأت صفات المؤمنين بالصلاة وختمت بالصلاة للدلالة على عظيم مكانتها في بناء الإيمان، بوصفها أكمل صورة من صور العبادة والتوجه إلى الله. تلك الخصائص تحدد شخصية المؤمنين المكتوب لهم الفلاح. وهي خصائص ذات أثر حاسم في تحديد خصائص الجماعة المؤمنة ونوع الحياة التي تحياها. الحياة الفاضلة اللائقة بالإنسان الذي كرمه الله؛ وأراد له التدرج في مدارج الكمال. ولم يرد له أن يحيا حياة الحيوان، يستمتع فيها ويأكل كما تأكل الأنعام. ولما كانت الحياة في هذه الأرض لا تحقق الكمال المقدر لبني الإنسان، فقد شاء الله أن يصل المؤمنون الذين ساروا في الطريق، إلى الغاية المقدرة لهم، هنالك في الفردوس، دار الخلود بلا فناء، والأمن بلا خوف، والإستقرار بلا زوال: {أولئك هم الوارثون، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}.. وتلك غاية الفلاح الذي كتبه الله للمؤمنين. وليس بعدها من غاية تمتد إليها عين أو خيال.. ومن صفات المؤمنين ينتقل إلى دلائل الإيمان في حياة الإنسان ذاته، وفي أطوار وجوده ونموه، مبتدئاً بأصل النشأة الإنسانية، منتهياً إلى البعث في الآخرة مع الربط بين الحياتين في السياق: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاماً، فكسونا العظام لحماً. ثم أنشأناه خلقاً آخر. فتبارك الله أحسن الخالقين. ثم إنكم بعد ذلك لميتون. ثم إنكم يوم القيامة تبعثون}.. وفي أطوار هذه النشأة، وتتابعها بهذا النظام، وبهذا الاطراد، ما يشهد بوجود المنشئ أولاً، وما يشهد بالقصد والتدبير في تلك النشأة وفي اتجاهها أخيراً. فما يمكن أن يكون الأمر مصادفة عابرة، ولا خبط عشواء بدون قصد ولا تدبير؛ ثم تسير هذه السيرة التي لا تنحرف، ولا تخطئ، ولا تتخلف؛ ولا تسير في طريق آخر من شتى الطرق التي يمكن عقلاً وتصوراً أن تسير فيها. إنما تسير النشأة الإنسانية في هذا الطريق دون سواه من شتى الطرق الممكنة بناء على قصد وتدبير من الإرادة الخالقة المدبرة في هذا الوجود. كما أن في عرض تلك الأطوار بهذا التتابع المطرد، ما يشير إلى أن الإيمان بالخالق المدبر، والسير على نهج المؤمنين الذي بينه في المقطع السابق.. هو وحده الطريق إلى بلوغ الكمال المقدر لتلك النشأة؛ في الحياتين: الدنيا والآخرة. وهذا هو المحور الذي يجمع بين المقطعين في سياق السورة. {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين}.. وهذا النص يشير إلى أطوار النشأة الإنسانية ولا يحددها. فيفيد أن الإنسان مر بأطوار مسلسلة، من الطين إلى الإنسان. فالطين هو المصدر الأول، أو الطور الأول. والإنسان هو الطور الأخير.. وهي حقيقة نعرفها من القرآن، ولا نطلب لها مصداقاً من النظريات العلمية التي تبحث عن نشأة الإنسان، أو نشأة الأحياء. إن القرآن يقرر هذه الحقيقة ليتخذها مجالاً للتدبر في صنع الله، ولتأمل النقلة البعيدة بين الطين وهذا الإنسان المتسلسل في نشأته من ذلك الطين. ولا يتعرض لتفصيل هذا التسلسل لأنه لا يعنيه في أهدافه الكبيرة. أما النظريات العلمية فتحاول إثبات سلم معين للنشوء والإرتقاء، لوصل حلقات السلسلة بين الطين والإنسان. وهي تخطئ وتصيب في هذه المحاولة التي سكت القرآن عن تفصيلها وليس لنا أن نخلط بين الحقيقة الثابتة التي يقررها القرآن.. حقيقة التسلسل.. وبين المحاولات العلمية في البحث عن حلقات هذا التسلسل وهي المحاولات التي تخطئ وتصيب، وتثبت اليوم وتنقض غداً، كلما تقدمت وسائل البحث وطرائقه في يد الإنسان. والقرآن يعبر أحياناً عن تلك الحقيقة باختصار فيقول: {... بدأ خلق الإنسان من طين}.. دون إشارة إلى الأطوار التي مر بها. والمرجع في هذا النص الأكثر تفصيلاً، وهو الذي يشير إلى أنه {من سلالة من طين} فالنص الآخر يختصر هذه الأطوار لمناسبة خاصة في السياق هناك. أما كيف تسلسل الإنسان من الطين فمسكوت عنه كما قلنا لأنه غير داخل في الاهداف القرآنية. وقد تكون حلقاته على النحو الذي تقول به النظريات العلمية وقد لا تكون؛ وتكون الأطوار قد تمت بطريق آخر لم يعرف بعد، وبسبب عوامل وعلل أخرى لم يكشف عنها الإنسان. . ولكن مفرق الطريق بين نظرة القرآن إلى الإنسان ونظرة تلك النظريات أن القرآن يكرم هذا الإنسان؛ ويقرر أن فيه نفخة من روح الله هي التي جعلت من سلالة الطين إنساناً، ومنحته تلك الخصائص التي بها صار إنساناً وافترق بها عن الحيوان. وهنا تفترق نظرة الإسلام افتراقاً كلياً عن نظرة الماديين. والله أصدق القائلين. ذلك أصل نشأة الجنس الإنساني.. من سلالة من طين.. فأما نشأة الفرد الإنساني بعد ذلك، فتمضي في طريق آخر معروف: {ثم جعلناه نطفة في قرار مكين}.. لقد نشأ الجنس الإنساني من سلالة من طين. فأما تكرار أفراده بعد ذلك وتكاثرهم فقد جرت سنة الله أن يكون عن طريق نقطة مائية تخرج من صلب رجل، فتستقر في رحم امرأة. نقطة مائية واحدة. لا بل خلية واحدة من عشرات الألوف من الخلايا الكامنة في تلك النقطة. تستقر: {في قرار مكين}.. ثابتة في الرحم الغائرة بين عظام الحوض، المحمية بها من التأثر باهتزازات الجسم، ومن كثير مما يصيب الظهر والبطن من لكمات وكدمات، ورجات وتأثرات! والتعبير القرآني يجعل النطفة طوراً من اطوار النشأة الإنسانية، تالياً في وجوده لوجود الإنسان.. وهي حقيقة. ولكنها حقيقة عجيبة تدعو إلى التأمل، فهذا الإنسان الضخم يختصر ويلخص بكل عناصره وبكل خصائصه في تلك النطفة، كما يعاد من جديد في الجنين وكي يتجدد وجوده عن طريق ذلك التلخيص العجيب. ومن النطفة إلى العلقة. حينما تمتزج خلية الذكر ببويضة الأنثى، وتعلق هذه بجدار الرحم نقطة صغيرة في أول الأمر، تتغدى بدم الأم.. ومن العلقة إلى المضغة، حينما تكبر تلك النقطة العالقة، وتتحول إلى قطعة من دم غليظ مختلط.. وتمضي هذه الخليقة في ذلك الخط الثابت الذي لا ينحرف ولا يتحول، ولا تتوانى حركته المنظمة الرتيبة. وبتلك القوة الكامنة في الخلية المستمدة من الناموس الماضي في طريقه بين التدبير والتقدير.. حتى تجيء مرحلة العظام.. {فخلقنا المضغة عظاماً} فمرحلة كسوة العظام باللحم: {فكسونا العظام لحماً}.. وهنا يقف الإنسان مدهوشاً أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيراً بعد تقدم علم الأجنة التشريحي. ذلك أن خلايل العظام غير خلايا اللحم. وقد ثبت أن خلايا العظام هي التي تتكون أولاً في الجنين. ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور العظام، وتمام الهيكل العظمي للجنين. وهي الحقيقة التي يسجلها النص القرآني: {فخلقنا المضغة عظاماً، فكسونا العظام لحماً}.. فسبحان العليم الخبير! {ثم أنشأناه خلقاً آخر}.. هذا هو الإنسان ذو الخصائص المتميزة. فجنين الإنسان يشبه جنين الحيوان في أطواره الجسدية. ولكن جنين الإنسان ينشأ خلقاً آخر، ويتحول إلى تلك الخليقة المتميزة، المستعدة للارتقاء. ويبقى جنين الحيوان في مرتبة الحيوان، مجرداً من خصائص الارتقاء والكمال، التي يمتاز بها جنين الإنسان. إن الجنين الإنساني مزود بخصائص معينة هي التي تسلك به طريقه الإنساني فيما بعد. وهو ينشأ {خلقاً آخر} في آخر أطواره الجنينية؛ بينما يقف الجنين الحيواني عند التطور الحيواني لأنه غير مزود بتلك الخصائص. ومن ثم فإنه لا يمكن أن يتجاوز الحيوان مرتبته الحيوانية، فيتطور إلى مرتبة الإنسان تطوراً آلياً كما تقول النظريات المادية فهما نوعان مختلفان. اختلفا بتلك النفخة الإلهية التي بها صارت سلالة الطين إنساناً. واختلفا بعد ذلك بتلك الخصائص المعينة الناشئة من تلك النفخة والتي ينشأ بها الجنين الإنساني {خلقاً آخر}. إنما الإنسان والحيوان يتشابهان في التكوين الحيواني؛ ثم يبقى الحيوان حيواناً في مكانه لا يتعداه. ويتحول الإنسان خلقاً آخر قابلاً لما هو مهيأ له من الكمال. بواسطة خصائص مميزة، وهبها له الله عن تدبير مقصود لا عن طريق تطور آلي من نوع الحيوان إلى نوع الإنسان. {فتبارك الله أحسن الخالقين}.. وليس هناك من يخلق سوى الله. فأحسن هنا ليست للتفضيل، إنما هي للحسن المطلق في خلق الله. {فتبارك الله أحسن الخالقين}.. الذي أودع فطرة الإنسان تلك القدرة على السير في هذه الأطوار، وفق السنة التي لا تتبدل ولا تنحرف ولا تتخلف، حتى تبلغ بالإنسان ما هو مقدر له من مراتب الكمال الإنساني، على أدق ما يكون النظام! وإن الناس ليقفون دهشين أمام ما يسمونه «معجزات العلم» حين يصنع الإنسان جهازاً يتبع طريقاً خاصاً في تحركه، دون تدخل مباشر من الإنسان.. فأين هذا من سير الجنين في مراحله تلك وأطواره وتحولاته، وبين كل مرحلة ومرحلة فوارق هائلة في طبيعتها، وتحولات كاملة في ماهيتها؟ غير أن البشر يمرون على هذه الخوارق مغمضي العيون، مغلقي القلوب، لأن طول الألفة أنساهم أمرها الخارق العجيب.. وإن مجرد التفكر في أن الإنسان هذا الكائن المعقد كله ملخص وكامن بجميع خصائصه وسماته وشياته في تلك النقطة الصغيرة التي لا تراها العين المجردة؛ وإن تلك الخصائص والسمات والشيات كلها تنمو وتتفتح وتتحرك في مراحل التطور الجنينية حتى تبرز واضحة عندما ينشأ خلقاً آخر. فإذا هي ناطقة بارزة في الطفل مرة آخرى. وإذا كل طفل يحمل وراثاته الخاصة فوق الوراثات البشرية العامة. هذه الوراثات وتلك التي كانت كامنة في تلك النقطة الصغيرة.. إن مجرد التفكر في هذه الحقيقة التي تتكرر كل لحظة لكاف وحده أن يفتح مغاليق القلوب على ذلك التدبير العجيب الغريب.. ثم يتابع السياق خطاه لاستكمال مراحل الرحلة، وأطوار النشأة. فالحياة الإنسانية التي نشأت من الأرض لا تنتهي في الأرض، لأن عنصراً غير أرضي قد امتزج بها، وتدخل في خط سيرها؛ ولأن تلك النفخة العلوية قد جعلت لها غاية غير غاية الجسد الحيواني، ونهاية غير نهاية اللحم والدم القريبة؛ وجعلت كمالها الحقيقي لا يتم في هذه الأرض، ولا في هذه الحياة الدنيا؛ إنما يتم هنالك في مرحلة جديدة وفي الحياة الأخرى: {ثم إنكم بعد ذلك لميتون. ثم إنكم يوم القيامة تبعثون}.. فهو الموت نهاية الحياة الأرضية، وبرزخ ما بين الدنيا والآخرة. وهو إذن طور من أطوار النشأة الإنسانية وليس نهاية الأطوار. ثم هو البعث المؤذن بالطور الأخير من أطوار تلك النشأة. وبعده تبدأ الحياة الكاملة، المبرأة من النقائص الأرضية، ومن ضرورات اللحم والدم، ومن الخوف والقلق، ومن التحول والتطور لأنها نهاية الكمال المقدر لهذا الإنسان. ذلك لمن يسلك طريق الكمال. الطريق الذي رسمه المقطع الأول في السورة. طريق المؤمنين فأما من ارتكس في مرحلة الحياة إلى درك الحيوان. فهو صائر في الحياة الأخرى إلى غاية الارتكاس. حيث تهدر آدميته، ويستحيل حصباً من حصب جهنم، وقوداً للنار، التي وقودها الناس والحجارة. والناس من هذا الصنف هو والحجارة سواء! ومن دلائل الإيمان في الأنفس ينتقل إلى دلائل الإيمان في الآفاق. مما يشهده الناس ويعرفونه، ثم يمرون عليه غافلين: {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق، وما كنا عن الخلق غافلين. وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض؛ وإنا على ذهاب به لقادرون. فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب، لكم فيها فواكه كثيرة، ومنها تأكلون. وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين. وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها، ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون. وعليها وعلى الفلك تحملون}.. إن السياق يمضي في استعراض هذه الدلائل، وهو يربط بينها جميعاً. يربط بينها بوصفها من دلائل القدرة؛ ويربط بينها كذلك بوصفها من دلائل التدبير؛ فهي متناسقة في تكوينها، متناسقة في وظائفها، متناسقة في اتجاهها. كلها محكومة بناموس واحد؛ وكلها تتعاون في وظائفها؛ وكلها محسوب فيها لهذا الإنسان الذي كرمه الله حساب. ومن ثم يربط بين هذه المشاهد الكونية وبين أطوار النشأة الإنسانية في سياق السورة. {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين}.. والطرائق هي الطبقات بعضها فوق بعض. أو وراء بعض. وقد يكون المقصود هنا سبع مدارات فلكية. أو سبع مجموعات نجمية كالمجموعة الشمسية. أو سبع كتل سديمية. والسدم كما يقول الفلكيون هي التي تكون منها المجموعات النجمية.. وعلى أية حال فهي سبع خلائق فلكية فوق البشر أي إن متسواها أعلى من مستوى الأرض في هذا الفضاء خلقها الله بتدبير وحكمة، وحفظها بناموس ملحوظ: {وما كنا عن الخلق غافلين}. {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض؛ وإنا على ذهاب به لقادرون}.. وهنا تتصل تلك الطرائق السبع بالارض. فالماء نازل من السماء؛ وله علاقة بتلك الأفلاك. فتكوين الكون على نظامه هذا، هو الذي يسمح بنزول الماء من السماء، ويسمح كذلك بإسكانه في الأرض. ونظرية أن المياه الجوفية ناشئة من المياة السطحية الآتية من المطر؛ وأنها تتسرب إلى باطن الأرض فتحفظ هناك.. نظرية حديثة. فقد كان المظنون إلى وقت قريب أنه لا علاقة بين المياه الجوفية والمياة السطحية. ولكن ها هو ذا القرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة قبل ألف وثلاث مائة عام. {وأنزلنا من السماء ماء بقدر}.. بحكمة وتدبير، لا أكثر فيغرق ويفسد؛ ولا أقل فيكون الجدب والمحل؛ ولا في غير أوانه فيذهب بدداً بلا فائدة.. {فأسكناه في الأرض}.. وما أشبهه وهو مستنكن في الأرض بماء النطفة وهو مستقر في الرحم. {في قرار مكين}.. كلاهما مستقر هنالك بتدبير الله لتنشأ عنه الحياة.. وهذا من تنسيق المشاهد على طريقة القرآن في التصوير.. {وإنا على ذهاب به لقادرون}.. فيغور في طبقات الأرض البعيدة بكسر أو شق في الطبقات الصخرية التي استقر عليها فحفظته. أو بغير هذا من الأسباب. فالذي أمسكه بقدرته قادر على تبديده وإضاعته. إنما هو فضل الله على الناس ونعمته. ومن الماء تنشأ الحياة: {فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب، لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون}.. والنخيل والأعناب نموذجان من الحياة التي تنشأ بالماء في عالم النبات كما ينشأ الناس من ماء النطفة في عالم الإنسان نموذجان قريبان لتصور المخاطبين إذ ذاك بالقرآن، يشيران إلى نظائرهما الكثيرة التي تحيا بالماء. ويخصص من الأنواع الأخرى شجرة الزيتون: {وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين}.. وهي من أكثر الشجر فائدة بزيتها وطعامها وخشبها. وأقرب منابتها من بلاد العرب طور سيناء. عند الوادي المقدس المذكور في القرآن. لهذا ذكر هذا المنبت على وجه خاص. وهي تنبت هناك من الماء الذي أسكن في الأرض وعليه تعيش. ويعرج من عالم النبات إلى عالم الحيوان: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها، ولكم فيها منافع كثيرة، ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون}.. فهذه المخلوقات المسخرة للإنسان بقدرة الله وتدبيره، وتوزيعه للوظائف والخصائص في هذا الكون الكبير.. فيها عبرة لمن ينظر إليها بالقلب المفتوح والحس البصير؛ ويتدبر ما ورائها من حكمة ومن تقدير؛ ويرى أن اللبن السائغ اللطيف الذي يشربه الناس منها خارج من بطونها؛ فهو مستخلص من الغذاء الذي تهضمه وتمثله؛ فتحوله غدد اللبن إلى هذا السائل السائغ اللطيف.
|